عبد القادر الاجطل يكتب ” الوظيفة الحكومية قد تكون من أضيق أبواب الرزق “

عبق_نيوز| ليبيا | هناك نوع من الناس يحرصون على أن يكون لهم مصدر إضافي للدخل غير الوظيفة الحكومية، وقد كنت من هذا النوع حتى استقلت من الوظيفة الحكومية عام 2013 للميلاد.

وقد ارتدت سوق السيارات في المساء بعد الخروج من العمل الوظيفي لنحو عقد من الزمان بشكل متقطع، وسوق السيارات هو ذلك المكان الذي يعج بالناس والسيارات، يتغير موقعه بين الفينة والأخرى في كل المدن تقريبا، وهذا أمر من السهل التعامل والتكيف معه، غير أن التغير المطرد الذي شهدت جزءا منه وغابت عني منه أجزاء، وهو يظهر في تقلبات تحدث للأسعار في السوق كل فترة من الزمان يربح فيه أقوام ويخسر فيها آخرون وينتقل السوق فيها من طور إلى طور، وهي ليست معزولة عن البيئة المحيطة بالسوق والواقع المتغير من حوله.

–قصتي مع السوق–

دخلت سوق السيارات مطلع عقد التسعينيات وكان لدخولي قصة أسوقها هنا بالمناسبة، فلقد كان لي صديق اسمه عصام من مدينة بنغازي يستورد السيارات ويصلحها ويعيد بيعها بعد ذلك، صديقي عصام هذا استورد سيارة مازدا 323 سيدان زرقاء اللون، وكانت قد تعرضت لحادث في مقدمتها من الجهة اليمنى، أصلحها عصام في ورشة تصليح جيدة فظهرت في صورة جميلة، وكان عصام مدينا بمبلغ نتيجة استيراده لهذه السيارة وإصلاحها، فعرض علي شراءها بسعر أقل من أربعة آلاف دينار ليبي، واشتريت هذه السيارة من صديقي عصام، ولفتت السيارة أنظار كل من شاهدها في تلك الأيام.

حدثت قفزة في أسعار السيارات بعد شرائي للسيارة المازدا بقليل، فبعت السيارة في السوق بأكثر من تسعة آلاف دينار، وجرني الربح الكبير الذي تحقق في هذه الصفقة دون تعب إلى ارتياد السوق.

عرفت خلال ترددي على السوق أن هذه الطفرات لا تحدث كثيرا، كما أنها ليست دائما في صالحك فقد تخسر كثيرا أحيانا كما ربحت كثيرا في أوقات نادرة أيضا، غير أن القاعدة تظل أن الربح المعقول والخسارة القليلة هو السائد في سوق السيارات، وهكذا وطنت نفسي على قبول منطق السوق بعد بذل الوسع بكل تأكيد.

–سوقنا–

السوق لا بد له أن يخضع لمرجعية متجاوزة، أي أنه ليس بمعزل عن المعايير الأخلاقية التي يخضع لها عموم المجتمع، وليس خاضعا لمرجعية كامنة بالمعنى الغربي، بمعنى أنه ليس له مرجعية من خارجه، وهذا الأمر هو ما يميز سوقنا، عن سوق المجتمعات البعيدة عن الدين، فالربح ليس هو الهدف النهائي للسوق بعيدا عن التراحم والتعاون، والصدق والأمانة والرفق بالضعيف والعطف على المحتاج، كلها أخلاق لصيقة بالسوق.

سوق السيارات كان ينعقد يوميا في مدينة شحات أمام شركة الجبل، قبل أن ينتقل إلى مدينة البيضاء،  وكذلك سوق مدينة بنغازي، غير أن السوق الأكبر كان ينعقد يوم الجمعة، وترتاده الجموع الغفيرة من الناس.

–تجار أمناء–

كان العمل في تجارة السيارات يقتضي التردد اليومي على السوق بعد الدوام الرسمي في الوظيفة الحكومية، لرصد الأسعار ومتابعة المستجدات، وتوطيد العلاقات مع التجار الصغار، وبيع وشراء السيارات بحسب قدرة كل تاجر.

وحفلت سنوات التردد على السوق بالكثير من الصداقات الوثيقة والمواقف الحسنة والصفقات المربحة، وعرفت فيه عديد التجار الأمناء، والرجال الأوفياء.

–الغش–

غير أن الغش والتناجش والتحاسد كان حاضرا كذلك ولكن بشكل أقل، وبيع النجش في سوق السيارات كان بأن يتفق تاجر مع آخرين من جماعته على أن يساوموا سيارته بأسعار تتجاوز ثمنها الحقيقي، ويزيد أحدهم على الآخر أمام الناس الراغبين في الشراء، حتى يغتر أحدهم ويعطي سعرا أكبر فيبيعه التاجر السيارة بأكثر من ثمنها الفعلي الذي تساويه في السوق.

وهي صورة من صور كثيرة للغش الذي كان يمتهنه بعض من يحترفون تجارة السيارات، من الحلف الكاذب، وإخفاء العيوب الكبيرة للسيارات بطرق مختلفة، وتعمد تغيير أرقام العداد، حتى تظهر السيارة كأنها أحدث أو أقل استهلاكا.

–خداع المظاهر–

وقد تعرضتُ لحادثة غشٍ متعمدة في السوق عام 2006 تقريبا، ذلك أنني دخلت السوق يوم الجمعة أريد شراء سيارة من أجل أن أستعملها قليلا ثم أبيعها، مررت بمعظم أرجاء السوق، وتفحصت سيارات عدة، غير أن سيارة بيجو بيضاء 307 موديل 2003 لفتت نظري، فوقفت عندها وتحدثت مع صاحبها الذي كان يجلس داخلها مع صديق له، وسألته عن السيارة، فأثنى عليها خيرا وأخبرني أنه هو من اشتراها جديدة وبقيت عنده حتى هذا الوقت، وسألته عن نفسه فأخبرني أنه طالب في كلية الطب، وأنه من حي الماجوري وسط مدينة بنغازي،  وسألته عن سعر السيارة فأخبرني بالسعر الذي يريد بيعها به، وتحدثت معه ولم أجد في شخصه ما يبعث على الريبة، وكانت السيارة البيجو 307 سيارة جميلة جدا، فلقد حازت على لقب أجمل سيارة في العالم عام 2003  دون منازع.

ركبت السيارة لأجربها فلاحظت أن ضوءا أحمرا يؤشر في العداد، فسألت الشاب صاحب السيارة عنه، فهون لي من شأنه وأخبرني أنه ضوء ينبه على موعد الصيانة الدورية، وأن هناك مركزا للفحص بالكمبيوتر في بنغازي طمأنه بخصوص هذا الضوء الأحمر،  أو كلاما قريبا من ذلك فيما أتذكر، ولكنه لم يتطرق إلى وجود أي عطل كبير أو متكرر في السيارة، اتفقت مع الشاب على شراء السيارة منه ووقعنا العقد عند محرر العقود وغادر متجها إلى بنغازي.

وفي اليوم التالي ركبت السيارة متجها إلى بنغازي من أجل فحص السيارة بالكمبيوتر، وفي الطريق انطفأت السيارة بشكل مفاجئ أكثر من مرة، وتوجست خيفة من ذلك، وواصلت رحلتي إلى بنغازي، وفور وصولي إلى هناك قصدت مركز الفحص الآلي، في أرض زواوة تقريبا.

بعد الفحص تبين أن السيارة تحتاج إلى بعض قطع الغيار، فاشتريتها وغيرتها لها، وعدت أدراجي إلى البيضاء، ولكن السيارة انطفأت خلال رحلة العودة أيضا، وفي اليوم التالي قررت العودة مرة أخرى إلى بنغازي، وزرت صاحب السيارة وحدثته عن القصة، فلم يبالي بما حصل معي وحاول التنصل من أي تبعة، ورفض رد السيارة، فتركته وسافرت إلى البيضاء.

وهكذا وبعد عدة كشوف عند عدد من مراكز الفحص الآلي، وبعد سؤال المختصين في البيجو من مدينة طرابلس عن طريق الأصدقاء، تبين لي أن السيارة تعاني من عطل في جهاز التحكم الرئيسي، وهو عبارة عن صندوق أسود صغير، يكلف تغييره أكثر من ألف دينار تقريبا.

بعد ترددي على صاحب السيارة، تأكد لي أنه كان يعلم بحقيقة عطل السيارة وأنه كذب علي متعمدا، فقررت أن أبيع السيارة بأي ثمن ولكنني أصررت على عدم كتمان عيبها عن المشتري.

دخلت السوق بسيارتي دون أن أغسلها، وجلست فيها انتظر الزبائن، مر عديد الأشخاص ولكن شخصا واحدا من مدينة المرج أظهر اهتماما بالسيارة، وسألني عنها فقلت له إنها سيارة مُتعِبة، وإن فيها عطل كهربائي عجزت عن معالجته، استغرب الرجل وقال لي أنت لم تمدح سيارتك، فقلت له ليس فيها ما يمتدح، دار الرجل حول السيارة وسألني عن سعر شرائي للسيارة، ثم عرض علي استبدال سيارتي بسيارته دون زيادة، فسألته عن سيارته وذهبت معه لمعاينتها، ثم قبلت وأتممت صفقة الاستبدال مع الرجل، واستلمت سيارته واستلم سيارتي وأتممنا التعاقد، وذهب كل إلى سبيله، ومنذ ذلك اليوم صرنا أصدقاء، ولم أتورط في الغش بعد أن غشني طالب الطب ذو المظهر الحسن.

–خسارة ومكسب–            

خسرت مبلغا من المال في هذه الصفقة، ولكنني كسبت أخلاقي وكسبت صديقا جديدا، كما أن السيارة الجديدة فتحت لي أبوابا جديدة، إذ أني استبدلتها بسيارة أخرى ثم بعتها وربحت فيها واستمرت تجارتي بعد أن اكتسبت خبرة جديدة، واستفدت وعيا جديدا.

وليس هناك وجه للمقارنة بين خسارة الأموال وخسارة الأخلاق.

المصدر / المقال منقول من صحيفة ليبيا الخبر الالكترونية بتاريخ الثلاثاء , 3 أبريل 2018 .

عبد القادر الاجطل يكتب ” الوظيفة الحكومية قد تكون من أضيق أبواب الرزق “

Comments are closed.

نحن لا نقوم بجمع بياناتك ولا نقوم ببيعها، نحن فقط نستخدم بعض الكوكيز التي قد تساعدنا في تطوير الموقع او تساعدك فيي الحصول على الصفحات بشكل أفضل موافق/ة إقرأ المزيد